شبير محمد المتعدد
السيرة العلمية
الولادة والنشأة؛
في بداية الثمانينات، أو كما تشهد الوثائق الإدارية، ولدت في قرية مسيصي التابعة حينها لجماعة ألنيف، بحيث كان التسجيل في سجل الحالة المدنية في غشت سنة 1981، مازلت أحتفظ ببعض ذكريات الطفولة الأولى، وعندما أسأل أمي وأبي عن عمري أنذاك يقولان إنني لم أتجاوز ثلاث سنوات بعد، ومما أتذكره أن أختي كانت تحملني في ظهرها إلى "لجامع"، وقد كان لنا فقيه تعلمت بفضله حروفي الأولى في اللغة العربية، حفظنا القرآن الكريم وبعض الأراجيز، إنه الشيخ الفاضل رحمة الله عليه "سيدي بوجمعة".
أذكر كذلك أول يوم لي في المدرسة، بل أتذكر أنني سألت أبي يوما: "متى سأذهب إلى المدرسة؟" فكان جوابه "نوف ءيمال" أي السنة ما بعد السنة المقبلة، وكان حينها يعمل مع "بن زايد ابراهيم" وبن عمر يوسف في منزل "أيت حدو"، وكان في يدي إطار ساعة كان يقال لها "مورطيما" مكتوب عليها 2:28 على ورق أصفر. مرت السنتان كالبرق فذهبت كأقراني إلى المدرسة، كنا في الأيام الأولى في قسم مختلط (الأول والثاني) بين أستاذتين هما أمطير مليكة ومبشور نجية، وكنت أول ضحية لتقسيمنا وضبط لوائح الأقسام، كان ذلك سنة 1987، فرفضت الأستاذة مليكة أن أكون تلميذا لها، هكذا فهمت قرارها بأنني لم أستوف السن القانوني للتمدرس بعد، لكن الخطأ متعلق بتسجيلي في الحالة المدنية متأخرا بحوالي أربعة أشهر، هكذا فهمت وضعي أخيرا..
تجارب ذات الأثر المهم في شخصيته؛
راكم الدكتور محمد شبير مجموعة من التجارب الحياتية، جعلته باحثا عن الفنية في مجالات انشغاله، فكان له حس فني يحلق به بين العصامية في الرسم والفن التشكيلي والكاليغرافيا ومحاولة العزف على آلة وترية، واكتسب تجربة من العمل في أوراش مختلفة (البناء، الجبص، البستنة، الفلح والزراعة..)، وتنقل بين مناطق مختلفة من المغرب أكسبته القرب من تقاليد مختلفة ومتنوعة، فكان مثالا للمثقف العضوي الذي ينخرط في الوسط، مستفيدا من التوجيهات التي كونها عن الباحثين الأنثربولوجيين والسوسيولوجيين، وكان لهذه الشخصية التي كونها بفضل هذه التجارب أثر بالغ الأهمية في شخصيته العلمية..
الدراسة والتحصيل العلمي؛
كانت الدراسة في المرحلة الإبتدائية بمدرسة مصيصي، وكانت مرحلة ميزها التفوق التام، وكان للأساتيذ الذين تتلمذ على أيديهم بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، أثر واضح في شخصيته المتعلقة بمهنة التعليم وبرجال التعليم ونسائه، وما زال يذكر أساتيذه وفضلهم عليه، فجاءت المرحلة الإعدادية التي طبعها التميز كذلك، وكان في القسم الداخلي بثانوية سيدي محمد بألنيف، لكنها عرفت منعطفا في السنة التاسعة (من مجموع سنوات الدراسة)، وكانت مرحلة صعبة لأنها فترة الاضطرابات في شخصية المراهق، وتولدت لديه شخصية ثائرة كادت أن تصبح انتقامية، لكن الانتقال إلى ثانوية الحسن الثاني بالريصاني، بعد رحيل الأسرة من مصيصي إلى الريصاني ولد لديه نوعا من الاستقرار والتحول، وكان لاندماجه في الأسرة (القبيلة) السعيدانية (بقصر أولاد سعيدان) فضل كبير لاستعادة التوهج المفقود في الدراسة بسبب سوء تدبير مشالك المراهقين في القسم الداخلي بألنيف، لكن الرحيل عن أولاد سعيدان أحدث شرخا في شخصيته مرة أخرى، فتراجع عن وهجه في التحصيل العلمي ولكنه غاص في بحر الشعر العربي.. ولأنه رب في الباكلوريا غير الوجهة إلى تازارين، وفي ثانوية سيدي عمرو وجد عالم الكتب، مكتبة الثانوية، مكتبة في جمعية الواحة وطلبة أصدقاء يغدقون عليه بضالته من الكتب وأساتيذ لا يبخلون عليه بكتبهم خاصة الأستاذين محمد بازي والحسين المسعودي، فكانت ثورة داخلية في شخصيته، بعد ذلك استقبلته جامعة ابن زهر بأكادير يوم 11 شتنبر 2001 طالبا جديدا بين أحضانها حتى حصل فيها على الإجازة في الأدب العربي سنة 2005، وبعد سنوات عاد إلى جامعة ابن طفيل (2008) للتسجيل في سلك الماستر، وقد حصل فيها على هذه الشهادة في تخصص الدراسات المسرحية سنة 2010، وبعد ذلك حصل على شهادة الدكتوراه من الجامعة نفسها سنة 2017.
شخصيته الأدبية والفنية؛
تتنوع اهتمامات الدكتور محمد شبير بين الكتابة الشعرية باللغتين العربية والأمازيغية، وبين الكتابة الروائية والمقامة، وتمتفتح كتاباته النقدية على مواضيع إشكالية تنهل من الفلسفة المعاصرة والحساسية التفكيكية، وتسائل الخطابات الهوياتية في هوامشها وتمركزاتها، أما موضوعات اهتمامه فمتنوعة، وله أسلوب خاص في الكتابة يستسقي من هذه المشارب المعرفية المختلفة التي تشكل دائرة اهتماماته..
مؤلفاته ومشاريعه العلمية؛
للدكتور محمد شبير مجموعة من المنشورات الفنية كـرواية "ركض في الأحلام" المنشورة سنة2019، ودراسة نقدية في المجال المسرحي تحمل عنوان "فلسفة الفرجات والمسرح: مفاهيم وإشكالات" منشورة سنة2020، ودراسة أخرى في مجال الخطاب الهوياتي تحمل عنوان "الهوية والديمقراطية: قراءة في الخطابين السياسي والثقافي بالمغرب" نشرت سنة 2021، وله مجموعة من المقالات النقدية المنشورة في مجلات علمية وفي كتب جماعية وأعمال ندوات وطنية ودولية، وله أعمال مخطوطة منها ما هو مقبل على النشر، ومن بينها دراسة بعنوان "فلسفة الفرجة: نحو تفكيك خطاب الافتضاحية"، وكتاب في علم العروض يحمل عنوانا مرحليا "الدليل إلى علم الخليل"، وكتاب دامع لعدد من الأبحاث المسرحية يجمعها عنوان "مباحث في المسرح"، وقد أنجز بحث الماستر في موضوع "الفرجة في الأشكال التعبيرية الأمازيغية" وأطروحة الدكتوراه في موضوع "أنثربولوجيا الفرجة الشعبية في المغرب: من التفكيك إلى النص المفترض"
اللون يقول كلماته بلسان أمازيغي، تراه العين فتسمعه أذن العقل والوجدان.
تحملني هذه الأضمومة من المحاولات الفنية من صخب الكلمات وضجيجها إلى لغة أخرى تسمع صرخاتها بلا ضجيج، إنها لحظات تعبر فيها النفس عن اختراقها للفضاءات، وتمتزج فيها المختلفات لتشكل وحدة عضوية كأنها هذه الهويات التي نصنعها يوميا بانتقالنا من فضاء إلى آخر، كأنها هذه الأقنعة التي نلبسها لأداء أدوارنا الفردية والجماعية..
فلسفة الفرجات والمسرح
ينطلق هذا الكتاب من التفكير في العلاقة بين الفرجة والمسرح خارج التمركز المسرحي الذي يقصي أشكال الممارسات الاجتماعية ذات القصدية الفرجوية من هذا الانتماء، ويسعى إلى إعادة التفكير في السيميولوجيا خارج الفهم القائل إنها علم للعلامات، ومتسبثا بكونها علما للدلالات مما يجعل عمل الممثل والمؤدي/ العارض عملا إنتاجيا وليس حصيلة عمل يستدعي الدراسة الإحصائية، وهذه الحساسية التفكيكية تساعد على فتح آفاق التأويل للعمل المسرحي، وللعمل الفرجوي بشكل عام، ليخرج من صمت الحدود الجغرافية لفضاء الاداء، ومن محدودية الخبرة النقدية لنقاد المسرح، وتعد المفاهيم التي تمت مراجعتها ذخيرة للتأليف في النقد الذي يتخذ الفرجة وفنونها موضوعا له، وهي عمدة مشروع أكاديمي فردي وجماعي نحن سائرون في طريقه..
الهوية والديمقراطية
الهوية والديمقراطية: قراءة في الخطابين السياسية والثقافي بالمغرب هذا الكتاب "قراءة في الخطابين السياسي والثقافي" في المغرب، لوضع الأمازيغية في موقعها ضمن الخطاب الديمقراطي من جهة والهوياتي من جهة ثانية، ولعل الأزمة نابعة من هذا التعالق بين السياسي والأيديولوجي في النظر إلى الثقافة والهوية، مما يدفع الخطاب الثقافي الهوياتي هو الآخر إلى التحول إلى أيديولوجيا مضادة، وهو أمر يفوت على المجتمع فرصا مهمة للتقدم على أرضية انتمائه الجغرافي وما توافد عليها من رياح ثقافية لقحت ما على هذه الأرض بلقاحات متعددة ومختلفة هي أساس الهوية المغربية التي تتعالى على المزايدات وآفاق التفكير الضيقة..نعلم أن الطابع الإشكالي لهذا الكتاب، يجعله مثيرا للأسئلة بشكل متجدد، وهذه استراتيجية التأليف التي ترمي إلى التجدد والانفتاح على الأفكار المختلفة لتطوير الذات والمحيط معا، في تفاعل إيجابي يؤمن بأن الهوية متجددة ومتغيرة ومتعددة وليست ثابتة وقاتلة..
ركض في الأحلام
"ركض في الأحلام" هكذا الرواية، تحملنا من عالم يشبه الواقع إلى عالم مفكك أو إلى ما وراء الواقع، لأنها عالم زواج بين الواقع والخيال، تشبه فيها الشخصيات هياكل عظمية، تكسوها الكتابة بلحم الإبداع، وترسم عليها القسمات والصفات وتلونها بما تريد، بل تشبه ممثلين تنازلوا عن أجسادهم وأرواحهم للشخصيات التي تؤديها في أدوار تختفي بالرحيل عن "فضاء التمثيل".. هكذا عالم الأحلام، فلنركض ركضة أخرى بعينين مفتوحتين، في عالم القراءة..
موت الهويات في العالم المعاصر
هل تموت الهويات بحياة الإنسان؟ هذا هو السؤال الذي يلقيه العنوان في نفوسنا، ويحمل نسبة مهمة من الصدمة، وتزداد هذه الصدمة حدة عندما يكون الجواب “نعم إن الهويات تموت بحياة الإنسان في العالم المعاصر، وهنا ننتقل إلى السؤال العلمي المجرد والشمولي: كيف تموت الهويات بحياة الإنسان في عالمنا المعاصر؟ ولأن الإنسان يتجاوز نفسه باستمرار فإن سؤال الكيف لا يكون له معنى إلا بسؤال آخر: لماذا تموت الهويات في عالمنا المعاصر بحياة الإنسان؟كان يعقد أن الهوية ميراث الإنسان من سابقيه، وعليه أن يحافظ على هذا الميراث، ليسلمه للأجيال اللاحقة، ويعلمهم كيف يحافظون عليه، وهذه الديمومة والاستمرارية التي تساكن هذا المفهوم للهوية، باعتبارها شكلا من أشكال الانتماء المستدام، يلغي الاستدامة في الإنسان، لأنه يتحول إلى آلة تكرر السابقين، ويقتصر دوره على التقليد، ويتحول كل ما يقوم به هذا الكائن إلى “محاكاة سلبية، وكأنه لا فاعلية له، فيفهم هذا التشيؤ بأنه سلب لماهية الانسان، ليتحول إلى آلة مقلدة للماضي البشري.يعكس الصراع الدائر بين النزعات الفردية والجماعية تجاه ما يجب أن تكون عليه الهوية نوعا من الإرجاء لفاعلية الإنسان، لفسح المجال للعلم حتى يقول كلمته في هذا الموضوع، ولأنه موضوع تحت مجهر الدراسة فإنه يفقد ما تبقى له من الفاعلية، ليس لأنه دخل دائرة المفعولية فقط، بل لأنه أصبح موضوعا للصراع والاستحواذ، أي غنيمة العلم والدراسة، فكيف لهذا المعطى المفقود أن يكون فاعلا يفتقد موضوعا آخر ويتفقده؟إن الجزء المسؤول عن هذا الاغتراب في العقل هو تلك الباحة المحفزة للشعور بالانتماء “في الماضي”، مما يجعل الهوية واقعة قبل الوجود وثابتة، وكلما تاه الإنسان عن ذاته وجب عليه أن يعود إلى ما قبل وجوده (الماضي)، ليتأكد ممن يكون، وهذا حال الفكر السلفي في التيارات كلها، بحيث يمكن الحديث عن السلفيات الدينية والعرقية والسياسية.. وحتى الفكر اليساري الذي يدعي الحداثة فله سلفياته، ولن نخجل بالحكم – وإن كان حكم قيمة- أن ضلال العقل حاصل في السرعة التي يعود بها إلى الخلف، وهي أضعاف سرعة سيره إلى الأمام..في عالمنا المعاصر، لعبت الهجرة دورا مهما في هندسة العلاقات الاجتماعية، وساهمت الزيجات المختلطة في نشر مجموعة من الجينات الرافضة للنكوص والانتماء إلى الماضي، وقد تغيرت أسباب العيش بهيمنة الرأسمال التكنولوجي على الحياة، ولم يعد الفرد فردا، لأنه لا يعيش وحيدا حتى في الحالات التي يكون فيها وحيدا في حيز جغرافي مادي معلوم، لأنه أصبح منتمٍ لعوالم افتراضية متناسلة باستمرار. إنه ضلال آخر، لكنه يهدم الضلال السابق، أصبح الفرد كطفل صغير تحمله معك في تطبيق من تطبيقات هاتفك، أينما حللت، وأنت محمول في هواتف الآخرين بالمقاس نفسه، أليس هذا الجنون كافيا للحكم على الهويات بأنها أوهام العقل البشري، وفيما نعتقد أن نشاط الجزء المسؤول عن الانتماء هو الذي يجعل العقل يصنع هذه الأوهام، أليس من الحمق أن يصدقها هذا العقل؟الهوية إذن، ليست حاصلة في الماضي، وليست حاصلة في الحاضر، هل يعني الأمر أنها في المستقبل وتجرنا إليها باستمرار؟ ألن يكون هذا التأويل لاهوتية أكثر من اللازم؟ أعترف بصعوبة هذه المهمة، فليس في الحياة أكبر من هذا الشؤم حين يبحث الإنسان في الإنسان عما يجعله إنسانا، ويصنع مفهوم الإنسانية ليلخص عجزه، أو ليبحث في القردة أو في الذباب أو في أي كائن آخر عن مورثات تستطيع تفسير كلمة “إنسان”، وما العلوم الإنسانية إلا روائز قوية للحديث عن موت الهويات في عالمنا المعاصر، البيولوجيا والأركيولوجيا والأنثربولوجيا والسيكولوجيا.. كلها تعرف بأنها “علم الإنسان”، ولكنها تثبت في النهاية أو التقديم أو عمليات الافتراض أن الانسان كائن ملتبس، أي لا هوية له..إن أعنف نعمة أعطيت للإنسان هو هذا العقل الذي دمّر مناحي وجودها كلها، ولما ظن أن الحياة المعاصرة وفرت للإنسان شروط الحياة كلها، بدأ العقل “الطبيعي” يفكر في صناعة نقيضه “العقل الاصطناعي”، لأنه بدأ يدرك عجزه عن التفكير، وعليه أن يصنع ما ينوب عنه، لكنه يغفل جانبا مهما من المعاناة، وهو أنه يصنع من يلغيه وصيّره إلى العدم، وقد شرع في تجريب مجموعة من التطبيقات وتطوير أخرى، وهذا ينبئ بتحول الحياة إلى إلكترونات منتشرة في كل موضع، لأن الحياة المادية الملموسة ستصبح وهما، والحياة الوهمية “الافتراضية” هي التي ستسمى الحياة الواقعية، ولأول مرة سأدرك أنني “أنا” الذي أتحدث هنا والآن، لست “أنا” بل هذا الآخر الذي يلغيني ويصنع بي قناعا ليتجرد من المسؤولية، فيجعلني في الواجهة لأتحمل عنه المسؤولية، إنها سردية عصر التكنولوجيا التي تقتل الهويات باستمرار..
الهوية ولعنة الهجنة
يرتبط مفهوم الهوية في العادة بالخصوصيات التي تميز الفرد عن باقي الأفراد، أو بتلك التي تميز جماعات عن الجماعات الأخرى، ولهذا نشأت على هامش الخطابات الهوياتية أفكار وحركات تدافع عن هذه الخصوصيات، باعتبارها أصالة وصفاء نوعيا، وعلى هامش هذا النزوع تنشأ أفكار أخرى تستهجن الاختلاط باعتباره فقدانا للمعان النقاء المعبر، في هذا الاعتقاد، عن الهوية، ويجب أن نتساءل هنا: هل يمكن الحديث عن نقاء الهويتين الفردية والجماعية؟ ألا يبدو أن لعنة الهجنة لعنة عامة تصيب أفراد النوع البشري كله وجماعاته؟
للتفكير في هذه الإشكالية، يفترض أن نبحث في عينة باعتبارها حقلا تجريبيا، وتحديد فضاء محدد واضح المعالم باعتباره ميدان البحث، واختيار روائز باعتبارها وسائل الاشتغال على هذا الموضوع المعقد، لكن ليست هذه الطريقة، بما فيها من الدقة والصرامة المنهجية، إلا نزعة أخرى من نزعات التخصيص في خطاب الهوية، أي تأسيسا لتمركز من تمركزاتها، ولهذا فإن توسيع الفضاء ليشمل المغرب مثلا، في أنواعه الاجتماعية ومحدداته الجغرافية، وأشكال انفتاحه وانغلاقه في التاريخ، اختيار يسمح بتفكيك خطاب الهويات في ظل هوية أخرى هي الخصوصية المغربية، وهي خصوصية حاضرة في أشكال التعبير التي تحتاج تشريحا لتجسيد تلك التمثلات المعبرة عن الذهنية المغربية في أبعادها المختلفة.
تستعمل في التعبيرات الشعبية المغربية مجموعة من العبارات الدالة على الهجنة، وتتقاطع كلها في دلالة الاستهجان، وليس غريبا أن لفظ الاستهجان هو الآخر يوحي بدلالة قدحية؛ إنه تشكيك في أصالة المرء، أي تعبير عن تلوث جيني في نسبه، وفي تشريح هذا الاعتقاد نصل إلى ثقافة الانغلاق التي تفرض مجموعة من القواعد الاجتماعية للتزاوج والتكاثر، ضمن ما يحفظه المثل الشعبي “خيرنا ما يدّيه غيرنا”، لأن هذا المثل ممتلئ دلاليا بخطاب الحفاظ على الخصوصية، فترفض الزيجات التي تكون خارج العشيرة أو العائلة أو القبيلة أو اللون.. لأنها سبب مباشر لفقدان “الهوية” بمعنى الخصوصية.
نجد من تعابير الاستهجان هذه الصفات المعبرة عن أنواع اجتماعية مختلفة، الدراوي والحرطاني والموريسكي وأولاد النصارى وأولاد السعودية، والعريبات ودوومنيع .. على سبيل المثال، وكلها تعني اختلاط في الأنساب والأعراق، فالدراوي هو المولّد من لونين مختلفين، وكذلك حال الحرطاني المولّد من حرّ وآمة، والموريسكي مختلط النسب بين المغرب وإسبانيا، وأولاد النصارى أو السعودية للدلالة على اللقيط الذي خلفه الأوروبيون، بعد الاستعمار أو في إطار السياحة، وكذلك حال أبناء السعوديين..، أما العريبات ففيه تهجين من حيث التصغير في صفة العرب، وكأن العريبات ليس خلّصا، والحال نفسها في دوومنيع المركبة من الأمازيغية (داو) التي تعني أسفل ومن النوع الاجتماعي “منيع” الدال على جوية جماعية عربية الأصول في اعتقادها، وهذا المزج يفيد أنهم في مرتبة أدنى من “منيع” وهذا استهجان .. ونحن نعرض هذه القراءات، نتواطأ بشكل من الأشكال مع الدلالات القدحية التي تخفيها هذه العبارات، لكن الهدف هو تفكيك هذه الخطابات التي تعتبر الأنساب المختلطة (الهجينة) فقدانا للهوية والخصوصية.
في مقابل هذه التعبيرات الدالة على الدونية، نجد صفات أخرى، كالقول بكون هذا الشخص عربيا وهذا أمازيغيا، وهذا ريفيا، وهذا شريفا.. لأن هذه الصفات تدل على الاحتفاظ بالرأسمال الرمزي الذي تمثله (بتعبير ابن خلدون) “العصبية” المفترضة في هذه الأعماق الهوياتية، ولذلك يمكن اشتقاق بعض التلميحات اللغوية التي اعتبرها المؤرخون والكتاب والمؤولون حقائق تاريخية، للحديث عن القبائل المغربية، أو عن الأنواع الاجتماعية بتعبير دوركهايم، فقال بعضهم بوجود مجموعة بشرية تسمى ” الحراطين” وهي مشتقة من “الحرثاني” أي الحر الثاني، باعتباره ليس حرا أصيلا، وليس عبدا حقيقيا، بل إنه مولّد من آمة وحرّ، أو من عبد وحرّة، وهذا نوع من الأسطرة للوعي واللغة للحديث عن “لعنة الهدنة في النسب.
يمكن الحديث عن أشكال أخرى من الهجنة، كتلك المرتبطة باللسان، فنتحدث عن العربي والعجمي، وعن الأمازيغي والعربي وأكناو Ag’naw، أي ذلك الذي في كلامه رطانة، وهي نوع من التلوث في اللسان، وهو تلويث للملكة اللغوية ولممارستها، ونجد في مقدمة ابن خلدون ما يميز بين ثلاثة أنواع من الأنواع الاجتماعية بناء على اللسان، فميز بين العرب والبربر والعجم، ولعل لفظ بربر توصيف لساني قائم على الصوت الذي يصدر عن الأمازيغي، قبل أن يكون قائما على أي صفة أخرى، ولهذا فلا شك أن استعمال العرب للفظ “البربر” في وصفهم للأمازيغ هو استعمال قدحي قائم على “رطانة لغوية” ناتجة عن “هجنة لسانية”، وهذا الاستهجان لا ينفصل عن هذه الصفة حتى إذا تم عزلها عن الصفة الإغريقية والرومانية للغريب، وذلك حال الاستعمال الأمازيغي للفظ أكناو Ag’naw، فهو استعمال قدحي حتى لو كان غير مقصود من جهة معينة.
هكذا يمكن أن نرصد موقع الهجنة في الذهنية المغربية، باعتبارها أمرا غير مرغوب فيه، ولكنهم في ممارساتهم اليومية، حتى في القديم، يعرفون أن التهجين يحقق فوائد مهمة في الحفاظ على النشاط والحيوية، وتحسين النسل، ويضمن الاستمرارية، ليس في صفوف المتعلمين فقط، بل في صفوف الفلاحين والممارسين الثقافيين للأنشطة الثقافية في أبعاده الاجتماعية واليومية، إذ يتم تهجين الخيول والحمير والنوق والشياه والمعز، ويتم تلقيم الأشجار، وتطعيم الخمائر باقتراض خمائر الجيران.. وليست هذه الأشكال من التهجين كلها إلا جانبا آخر من الوعي بأهمية الهجنة في الحفاظ على الهوية خارج الخصوصيات..
خلاصة القول؛ إن الهجنة التي تعتبرها الذهنية المغربية ضربا من ضروب فقدان الخصوصية، أي فقدانا للهوية، ليست إلا ملمحا آخر من ملامح الهوية خارج مفاهيم التشابه التي يتوهما العقل البشري، إن الهجنة هوية الاختلاف التي تعيد رسم مفهوم الهوية خارج دائرة الماهيات الثابتة، وخارج تلك المقارنة بالآخر الطامحة في المطابقة النوعية أو اللغوية.. لربطها بالتغير والتبدل والتحول، لأنها مجال لتقاطعات ناتجة عن انفتاح الكائن البشري على محيطه، حتى في أشكال انغلاقه، إن الهجنة التي ترتسم معالم اللعنة فيها أمام الخطابات الرامية إلى الحفاظ على الخصوصية، هي نفسها اللحمة التي ترسم عليها هندسة الهوية المنفتحة والمتنوعة والمتعددة، لأنها تزيح الثبات وبالتغير، والإثبات بالنفي، والتشابه بالاختلاف.
نشر سابقا في:
الهوية ولعنة الهجنة
يرتبط مفهوم الهوية في العادة بالخصوصيات التي تميز الفرد عن باقي الأفراد، أو بتلك التي تميز جماعات عن الجماعات الأخرى، ولهذا نشأت على هامش الخطابات الهوياتية أفكار وحركات تدافع عن هذه الخصوصيات، باعتبارها أصالة وصفاء نوعيا، وعلى هامش هذا النزوع تنشأ أفكار أخرى تستهجن الاختلاط باعتباره فقدانا للمعان النقاء المعبر، في هذا الاعتقاد، عن الهوية، ويجب أن نتساءل هنا: هل يمكن الحديث عن نقاء الهويتين الفردية والجماعية؟ ألا يبدو أن لعنة الهجنة لعنة عامة تصيب أفراد النوع البشري كله وجماعاته؟
للتفكير في هذه الإشكالية، يفترض أن نبحث في عينة باعتبارها حقلا تجريبيا، وتحديد فضاء محدد واضح المعالم باعتباره ميدان البحث، واختيار روائز باعتبارها وسائل الاشتغال على هذا الموضوع المعقد، لكن ليست هذه الطريقة، بما فيها من الدقة والصرامة المنهجية، إلا نزعة أخرى من نزعات التخصيص في خطاب الهوية، أي تأسيسا لتمركز من تمركزاتها، ولهذا فإن توسيع الفضاء ليشمل المغرب مثلا، في أنواعه الاجتماعية ومحدداته الجغرافية، وأشكال انفتاحه وانغلاقه في التاريخ، اختيار يسمح بتفكيك خطاب الهويات في ظل هوية أخرى هي الخصوصية المغربية، وهي خصوصية حاضرة في أشكال التعبير التي تحتاج تشريحا لتجسيد تلك التمثلات المعبرة عن الذهنية المغربية في أبعادها المختلفة.
تستعمل في التعبيرات الشعبية المغربية مجموعة من العبارات الدالة على الهجنة، وتتقاطع كلها في دلالة الاستهجان، وليس غريبا أن لفظ الاستهجان هو الآخر يوحي بدلالة قدحية؛ إنه تشكيك في أصالة المرء، أي تعبير عن تلوث جيني في نسبه، وفي تشريح هذا الاعتقاد نصل إلى ثقافة الانغلاق التي تفرض مجموعة من القواعد الاجتماعية للتزاوج والتكاثر، ضمن ما يحفظه المثل الشعبي “خيرنا ما يدّيه غيرنا”، لأن هذا المثل ممتلئ دلاليا بخطاب الحفاظ على الخصوصية، فترفض الزيجات التي تكون خارج العشيرة أو العائلة أو القبيلة أو اللون.. لأنها سبب مباشر لفقدان “الهوية” بمعنى الخصوصية.
نجد من تعابير الاستهجان هذه الصفات المعبرة عن أنواع اجتماعية مختلفة، الدراوي والحرطاني والموريسكي وأولاد النصارى وأولاد السعودية، والعريبات ودوومنيع .. على سبيل المثال، وكلها تعني اختلاط في الأنساب والأعراق، فالدراوي هو المولّد من لونين مختلفين، وكذلك حال الحرطاني المولّد من حرّ وآمة، والموريسكي مختلط النسب بين المغرب وإسبانيا، وأولاد النصارى أو السعودية للدلالة على اللقيط الذي خلفه الأوروبيون، بعد الاستعمار أو في إطار السياحة، وكذلك حال أبناء السعوديين..، أما العريبات ففيه تهجين من حيث التصغير في صفة العرب، وكأن العريبات ليس خلّصا، والحال نفسها في دوومنيع المركبة من الأمازيغية (داو) التي تعني أسفل ومن النوع الاجتماعي “منيع” الدال على جوية جماعية عربية الأصول في اعتقادها، وهذا المزج يفيد أنهم في مرتبة أدنى من “منيع” وهذا استهجان .. ونحن نعرض هذه القراءات، نتواطأ بشكل من الأشكال مع الدلالات القدحية التي تخفيها هذه العبارات، لكن الهدف هو تفكيك هذه الخطابات التي تعتبر الأنساب المختلطة (الهجينة) فقدانا للهوية والخصوصية.
في مقابل هذه التعبيرات الدالة على الدونية، نجد صفات أخرى، كالقول بكون هذا الشخص عربيا وهذا أمازيغيا، وهذا ريفيا، وهذا شريفا.. لأن هذه الصفات تدل على الاحتفاظ بالرأسمال الرمزي الذي تمثله (بتعبير ابن خلدون) “العصبية” المفترضة في هذه الأعماق الهوياتية، ولذلك يمكن اشتقاق بعض التلميحات اللغوية التي اعتبرها المؤرخون والكتاب والمؤولون حقائق تاريخية، للحديث عن القبائل المغربية، أو عن الأنواع الاجتماعية بتعبير دوركهايم، فقال بعضهم بوجود مجموعة بشرية تسمى ” الحراطين” وهي مشتقة من “الحرثاني” أي الحر الثاني، باعتباره ليس حرا أصيلا، وليس عبدا حقيقيا، بل إنه مولّد من آمة وحرّ، أو من عبد وحرّة، وهذا نوع من الأسطرة للوعي واللغة للحديث عن “لعنة الهدنة في النسب.
يمكن الحديث عن أشكال أخرى من الهجنة، كتلك المرتبطة باللسان، فنتحدث عن العربي والعجمي، وعن الأمازيغي والعربي وأكناو Ag’naw، أي ذلك الذي في كلامه رطانة، وهي نوع من التلوث في اللسان، وهو تلويث للملكة اللغوية ولممارستها، ونجد في مقدمة ابن خلدون ما يميز بين ثلاثة أنواع من الأنواع الاجتماعية بناء على اللسان، فميز بين العرب والبربر والعجم، ولعل لفظ بربر توصيف لساني قائم على الصوت الذي يصدر عن الأمازيغي، قبل أن يكون قائما على أي صفة أخرى، ولهذا فلا شك أن استعمال العرب للفظ “البربر” في وصفهم للأمازيغ هو استعمال قدحي قائم على “رطانة لغوية” ناتجة عن “هجنة لسانية”، وهذا الاستهجان لا ينفصل عن هذه الصفة حتى إذا تم عزلها عن الصفة الإغريقية والرومانية للغريب، وذلك حال الاستعمال الأمازيغي للفظ أكناو Ag’naw، فهو استعمال قدحي حتى لو كان غير مقصود من جهة معينة.
هكذا يمكن أن نرصد موقع الهجنة في الذهنية المغربية، باعتبارها أمرا غير مرغوب فيه، ولكنهم في ممارساتهم اليومية، حتى في القديم، يعرفون أن التهجين يحقق فوائد مهمة في الحفاظ على النشاط والحيوية، وتحسين النسل، ويضمن الاستمرارية، ليس في صفوف المتعلمين فقط، بل في صفوف الفلاحين والممارسين الثقافيين للأنشطة الثقافية في أبعاده الاجتماعية واليومية، إذ يتم تهجين الخيول والحمير والنوق والشياه والمعز، ويتم تلقيم الأشجار، وتطعيم الخمائر باقتراض خمائر الجيران.. وليست هذه الأشكال من التهجين كلها إلا جانبا آخر من الوعي بأهمية الهجنة في الحفاظ على الهوية خارج الخصوصيات..
خلاصة القول؛ إن الهجنة التي تعتبرها الذهنية المغربية ضربا من ضروب فقدان الخصوصية، أي فقدانا للهوية، ليست إلا ملمحا آخر من ملامح الهوية خارج مفاهيم التشابه التي يتوهما العقل البشري، إن الهجنة هوية الاختلاف التي تعيد رسم مفهوم الهوية خارج دائرة الماهيات الثابتة، وخارج تلك المقارنة بالآخر الطامحة في المطابقة النوعية أو اللغوية.. لربطها بالتغير والتبدل والتحول، لأنها مجال لتقاطعات ناتجة عن انفتاح الكائن البشري على محيطه، حتى في أشكال انغلاقه، إن الهجنة التي ترتسم معالم اللعنة فيها أمام الخطابات الرامية إلى الحفاظ على الخصوصية، هي نفسها اللحمة التي ترسم عليها هندسة الهوية المنفتحة والمتنوعة والمتعددة، لأنها تزيح الثبات وبالتغير، والإثبات بالنفي، والتشابه بالاختلاف.
نشر سابقا في:
الديمقراطية الثقافية
احتكر الوسط السياسي مفهوم الديمقراطية حتى أضحى من الصعب تمثله خارج هذا السياق، فنتج عن ذلك تمثل واع للديمقراطية أنها ممارسة لتنظيم العلاقة بين النخبة الحاكمة وبين عامة الشعب، وامتد ظل هذا التأويل إلى مجالات أخرى، خارج مفهوم الدولة، لتنظيم العلاقات الاجتماعية وحسن تدبير الموارد الاقتصادية، لكن التفكير في الديمقراطية من المنظور الثقافي لم يعط الأهمية الكافية، وهو الأجدر بهذا الاهتمام، لأن الثقافة تضم مناحي الحياة كلها، بما في ذلك الممارسات السياسية، واستغلال الموارد الاقتصادية، لأن ذلك لا يكون إلا في سياقات ثقافية مختلفة، ومن هنا نتساءل: أي دور للديمقراطية الثقافية في نشر قيم الإنسانية ؟ وكيف يمكن تحقيق ديمقراطية ثقافية في المجتمع المعاصر؟
هذا هو الموقف الذي أود أن أناقشه في هذا المقال، وسأضعه في سياق التعددية الثقافية، حتى أتمكن من القبض على بعض خيوط الإشكالية، ولابد، عند الحديث عن التعددية الثقافية، من استحضار خطابات الخصوصيات الثقافية، وعولمة الثقافة، والتنوع الثقافي، والثقافة العالمية.. واستحضار أشكال الاختزال القائمة على ثنائيات ضدية، كالأنا والآخر، الشرق والغرب، التقدم والتخلف.. لأن هذه الاستراتيجية ستفسح لنا المجال للحديث عن إشكالات أخرى مرتبطة بمفاهيم الشعوب الأصلية، وشعوب ما بعد الاستعمار، والقوميات، والعرقيات، والأقليات؛ وهذا موضوع يخفي الكثير من المزالق التي تحتاج الى الخلخلة. فهل يمكن الحديث عن ممارسة “الديمقراطية الثقافة” في المغرب؟
نقصد بمفهوم “الديمقراطية الثقافية” التعامل مع الثقافات المختلفة للمجتمع بمنطق المساواة، والنظر إليها بشكل من الحياد، من لدن المؤسسات الساهرة على السياسة الثقافية، والساهرة على تنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في بلد ما. أي إن الحديث عن الديمقراطية الثقافية في المغرب، لا يرتبط فقط بوزارة الثقافة، باعتبارها الجهة الساهرة على توجيه الثقافة الوطنية نحو “السوق المفتوحة للسلع الثقافية”، بل تشاركها مؤسسات أخرى، ذات الطابع السياسي كالبرلمان والأحزاب والنقابات.. وأخرى ذات الطابع الديني، لأن التدين ممارسة ثقافية، كيفما كان شكله، وكيفما كان المعتقد والطوطم، بالإضافة إلى المؤسسات التعليمية، والإعلام وقس على ذلك..
لعل هذا الربط بين الديمقراطية الثقافية وهذه المؤسسات المختلفة، يفيد إلى عمق القضايا المتشعبة التي سنتدرج في معالجتها، فننطلق من مسلمة مفادها أن الاختلاف في بعض القضايا العامة، يدعو إلى التصويت على أطراف الاختلاف، لأن ذلك سيضمن مجالا واسعا من التفاهم، ويكتسب أحد الآراء مشروعيته من صوت الأغلبية من جهة، وطابع الإلزامية من هذه الأغلبية من جهة أخرى: إنها الممارسة الديمقراطية، لكن هل تم انتخاب منظومة القيم الثقافية في المغرب؟ أم إن الثقافة السائدة قد اكتسبت مشروعيتها من “رمزية أخرى” غير الانتخاب الثقافي؟
ينص الدستور المغربي على “التعددية الثقافية”، ولكنها في العمق تعددية قائمة على “المركزية العربية” التي تصب فيها مجموعة من الثقافات الأخرى باعتبارها “روافد” ثقافية، أي أن “الثقافة العربية هي الثقافة الوطنية” والثقافات الأخرى ( الأمازيغية والعبرية والحسانية والإفريقية) كلها روافد تصب في نهر الثقافة المركز، ويمكن فهم هذا التقسيم باستحضار مفهوم الوطن، في الدول الأوروبية مثلا، لنجد بجانبه مفهوم الأمة، فلا يذكر أحدهما إلا وحضر الآخر، كما هو الشأن لكلمة Nation في الفرنسية، وهذا الوطن/ الأمة، يتحدد جغرافيا وينفتح اجتماعيا ليستوعب الثقافات الأخرى التي تعزز الانتماء إلى الأمة الفرنسية أو الشعب الفرنسي، وهذا يفيد أن “التعددية الثقافية” في فرنسا “ضم لفرنسيي الجنسية، رغم اختلاف أصولهم الاجتماعية، ولكن لا يمكن أن نسقط ذلك على المغرب مثلا، وإلا فهل يمكن اعتبار فريق باريس سان جيرمان لكرة القدم عربيا، لأن الجهة الرأسمال العربي هو الذي يسيره؟
نلتفت إلى الجهة الأخرى، فنجد مقولة “السكان الأصليين” للحديث عن الهنود الحمر مثلا، وهذا التحديد لا يجد مكانا في الهوية الثقافية المغربية، ويسايره في ذلك مفهوم الأقليات، بحيث يصعب تحديد الأصول الاجتماعية للمجتمع المغربي، بشكل واضح وعلمي دقيق، مما يعني أن الحديث عن الأقليات لا يساير الهوية الثقافية المغربية، بل لا ينطبق على هذه الهوية الثقافية، حتى مفهوم شعوب ما بعد الاستعمار، ولعل الفكرة التي تفرض نفسها في هذا السياق، هي “التعددية الثقافية”، بمعنى تنتفي فيه أشكال التمركز والتهميش اللذين يعبران عن غياب الممارسة الديمقراطية في التعامل مع الثقافة، أي غياب “الديمقراطية الثقافية” في السياسة الثقافية والقوانين المغربية.
لا شك أن المغرب وسط إحيائي للثقافات، وهذا مورد الغنى الثقافي عندما تستثمر الثقافة بمقاسات ديمقراطية، لا تنتصر لجهة على حساب الجهات الأخرى، فلا مغرب من غير أمازيغ وعبرانيين وعرب وأوربيين وآسيويين وأفارقة.. تفاعلوا في هذا المجال، وساهمت في تكوين هذه التعددية الزيجات المختلطة، والحروب، والهجرات، والعلاقات الدولية، واللغات والفنون والتقاليد.. وفي هذه النقطة تنتفي اعتباطية الممارسات الثقافية، لأنها ليست تشكيلا للاوعي، بل إنها ممارسة واعية حتى في أشكالها التي تبدو لاواعية..
لا يمكن أن تستوعب التعددية الثقافية، وممارستها بشكل ديمقراطي بناء، إذا كان مفهوم التعددية غير واضح بما فيه الكفاية، ولذلك لا بد من تبيان الخلط الذي يشوب هذا المفهوم، بأنه تركيب بين هويات مختلفة الواحدة بجانب الأخرى، وإحداث قوانين أو مؤسسات مختلفة خاصة بهذه الثقافات، فهذه ليست إلا تعددية شكلية، تتحول فيها المؤسسة إلى “وسيلة ردعية” للتحكم الصريح أو الضمني في الاختلافات، أما الغاية فتكون تدبير هذه الاختلافات في الاتجاه الذي يخدم “المركزية الثقافية السائدة”، وليست هذه المركزية بالضرورة أيديولوجيا الدولة/ المخزن، بل قد تكون أيديولوجيا الفئة المتحكمة في هندسة “الثقافة الوطنية” بمحدداتها المختلفة.
وبالتالي، يجب إعادة التفكير في مؤسسات الدولة، لإرسائها على هذه القيم التي تضمن تعددية حقيقية، بل تعددية ديمقراطية، لأن المجتمع المغربي في حاجة إلى هذه “الديمقراطية الثقافية”، لأنها ستشيع في المجتمع ثقافة ديمقراطية، لم يجد إليها سبيلا، وسط ازدحام أشكال الفكر الإقصائية التي تشرعنها هذه المؤسسات، ويمكن القول إن الأحزاب والتعليم والنقابات وغيرها من المؤسسات، في حاجة إلى إعادة صياغة أنسجتها الأيديولوجية، لتساهم في تقدم المغرب، وبعضها يجب أن يدرك أن “أيديولوجيا الاقصاء والأحادية” لم يعد لها مكان في تاريخ المغرب المعاصر، إلا إذا كان لها تعاقد والتزامات مع التخلف يصعب التخلي عنها، وفي هذه الحالة، وجب عليها التحلي بقليل من الشجاعة لإعلان ذلك.
نشر سابقا في:
الذكاء الاصطناعي أو الآلة الراشدة!
هل عادت الفكرة الماركسية القائلة باستعباد الآلة للانسان الى الواجهة؟ هل تنازل الانسان عن حقه في الوجود، بالمعنى الهايديكيري، للآلة؟ ألم تخرج التكنولوجيا الآلة من سجن الشيء/ المعطى لتصبح ذاتا مفكرة ومنتجة للافكار في الان نفسه؟
الإفريقي "صديق الجميع"!
نكاد جميعا أن نتفق أن لفظ إفريقيا مقترن، في تمثل شعوب العالم، بما في ذلك الأفارقة أنفسهم، بالفقر والتخلف والهمجية والحروب الأهلية والاستعمار والقوة الجسدية، وهذه هي البداية الفعلية للتهرب من الانتماء الافريقي. لكن التحديد الجغرافي يشد الانسان الإفريقي إلى هذا الانتماء، حتى في أشكال هروبه من هويته أو تهربه منها، ويزيد هذا الارتباط العضوي بالأرض من تعقيد "عقدة الانتماء" لدى هذه الفئات التي تحاول التخلص من هذه المشيمة بشكل من الأشكال، ولعل الهجرة إحدى الوسائل التبريرية التي يلجأ الأفارقة لاستعمالها في إبراز نسبة من القناعة بهوياتهم المستقبلية، وتغري بها بلدان أخرى هذه الشعوب لشرعنة أشكال التمييز والاستغلال والنهب الذي تتعرض له هذه القارة منذ القدم... يجب أن ندرك أن انتشار الأفارقة في العالم أمر طبيعي، إذا نظرنا إلى هذا السياق العام الذي توضع فيه إفريقيا، ويتضح ذلك أكثر عندما نقوم بتبئير المشكلة في سياقاتها الخاصة، ويكفي هنا أن نحلل مثلا وضعية هؤلاء المهاجرين، في بلد من البلدان، وقبل القيام بتلك العملية في بلد أوروبي أو أسيوي أو أمريكي أو أسترالي، وجب تجسيد الوضع في إفريقيا ذاتها، لهذا سنركز على وضعية "الإفريقي" في المغرب، وغايتنا تتجاوز تحليل الخطاب إلى التفكير في حلول بديلة يندمج فيها الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي، لتحقيق الانتماء والشروط الهوياتية التي تضمن للإنسان إنسانيته في أي مكان وجد فيه لظرف من الظروف، ونطرح هنا هذا السؤال الذي يبدو مباشرا: ما وضع الأفارقة في المغرب؟ كنت مترددا في طرح هذا السؤال، لأنه محبط كثيرا للمغربي الذي يعتقد أنه ليس إفريقيا، وللإفريقي الذي ليس مغربيا، أو يعتقد ذلك، بكثير من الإرجاء والتسويف، لذلك لزم أن يعاد النظر في لفظ "إفريقي" باعتباره مقولة هوياتية جغرافيا واجتماعيا وشعوريا، قبل التفكير في مظاهر اللون واللغة والقسمات والأصول المفترضة! « Mon ami est péjoratif !» يحدد عادة لفظ "Mon ami" للتعريف بالإفريقي أو مخاطبته، ورغم أن هذا اللفظ يفيد الصداقة إلا أن استعماله يكون بعيدا عن هذا السياق (الصداقة)، وعلينا أن نتساءل عن الظرف الاجتماعي الذي أنتجت فيه هذه الكلمة، ولهذا السؤال إجابة، بحيث يمكن القول إن استعمال فئة من الشباب القادمين من دول الساحل والصحراء لهذا اللفظ كانت الغاية منه التقرب من سكان البلدان المستقبلة لهم، أي أن "الصداقة" كانت في بداية الأمر توسلا وتقربا، لكنه تحول بسبب تغيير المواقع بين المخاطبين والمستقبلين للخطاب إلى "نعت" للتمييز والوصف، وهذا شبيه بحال الأمازيغ الذين سموا بالبربر لرطانة في كلامهم، من زاوية خارجية، من قبل الآخر اللغوي، حسب ما جاء في مقدمة ابن خلدون، في أصل التسمية، أي أن كثرة التلفظ بلفظ "صديقي Mon ami" أدى إلى إنتاج صفة تمييزية لا تعني الصداقة حقا، بقدر ما تعني "الغريب" والآخر المختلف، والوافد، وتستعمل هذه التسمية للسخرية أو للحط من قيمة الشخص في سياقات أخرى، ويكفي هذا التحديد للقول إن "الصداقة" في هذا التوصيف ليست إلا نوعا من "الحط" من قيمة الآخر وتحقيره، إنها تعني الدونية والانحطاط والتخلف أكاديميا، يمكن القول إن مجموعة من الباحثين قد تناولوا في أطاريحهم وأبحاثهم جوانب من مشاكل هؤلاء المهاجرين، ومن بين هؤلاء الأستاذ الباحث سعيد الطاهري الذي عنون بحثه للحصول على شهادة الماستر بهذا العنوان الإشكالي: "الهوية الدينية والهجرة غير النظامية- دراسة سوسيو-أنثروبولوجية لواقع التعايش الديني بين المغاربة المسلمين والأقليات الدينية من بلدان غرب افريقيا- فاس مكناس نموذجا. وقد أفادنا الباحث بملخص عن أطروحته يقول فيه: "بحكم موقعه الاستراتيجي، أصبح المغرب في العقود الأخيرة منطقة عبورٍ للمهاجرين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء والمتجهين إلى أوربا، وأرض ملاذٍ للذين لا يستطيعون مواصلة رحلتهم نحو وجهتهم. وبسبب الأعداد المتزايدة لهؤلاء المهاجرين، سيما غير النظاميين منهم، فقد أضحى المغرب بما لا يدع أي مجال للشك مسرحا لتفاعل الهويات الدينية المختلفة، وبالتالي أرضية خصبة لطرح قضايا الاندماج والادماج الديني ومختبرا لدراسة تحديات الأمن والعيش المشترك. عملت هذه الدراسة، ومن منظور سوسيو-أنثروبولوجي، على دراسة طبيعة تفاعل الهويات الدينية في سياق المجتمع المغربي بين الأقليات الدينية من المهاجرين غير النظاميين من دول غرب افريقيا والمغاربة المسلمين استنادا إلى اعتبارات ذاتية شخصية مرتبطة باستراتيجيات المهاجر غير المسلم من دول افريقيا جنوب الصحراء في تدبير شانه الديني، وسياسية رسمية متعلقة بسياسة الدولة في مجال الهجرة عامة وفي مجال الإدماج الديني خاصة، ومجتمعية مرتبطة بطبيعة التدين الإسلامي المغربي. كشفت نتائج الدراسة على كون واقع وحاصل التفاعل بين الهوية الدينية للأقليات من المهاجرين غير النظاميين من دول غرب افريقيا مع الهوية الدينية الإسلامية للمجتمع المغربي يؤكد إمكانية وجود تعايش مشروط بمجوعة من العوامل بين الهويتين، منها: وجود الكنائس المسيحية وإمكانية الولوج إليها في المغرب كدولة اسلامية، سواء كان المهاجر في وضعية نظامية أو غير نظامية؛ ثم كون نسبة الأقليات الدينية المسيحية في المغرب لا تشكل أي تهديد، في الحالة الراهنة، لهواجس أمنه السياسي والاجتماعي " زيماريو الإفريقي صديق البيئة! لم يكن زيماريو من أولئك الذين تعلموا التسول والتبول في كل مكان، ولم يكن من أولئك المقامرين الذين تتقياهم الأزقة الضيقة لتتلقفهم أوراق اليانصيب، إنه ذو طبع مختلف، عدت من العمل فوجدته منهكا وقد غالبه النوم على درج بيت مهجور، ممسكا بالمكنسة كفقيه جالس بين خطبتي الجمعة، ترددت بين إيقاظه وتركه، لكن إحساسا ما دفعني إليه بعفوية فقلت له: السلام عليك يا أخي، فرد السلام ونظر إلي نظرة عمودية بعينين خالطت بياضهما حمرة مخيفة، لعلها حمرة ناتجة عن الإرهاق لولا إحساسي العنصري! حاولت أن أطمئنه قائلا: من أي بلد أنت؟ فقال لي: غانا، وشرع يشرح لي عن بلده حتى لا أقع في نسبته لأي بلد آخر لتقارب أسماء كثير من الدول (غانا، غينيا، كينيا..) فقلت له: لا عليك أخي، أنت من بلد أبيدي بوليه، لاعب أولمبيك مارسيليا الشهير، ضحك وقال لي: نعم، نعم إننا من نفس البلدة تقريبا، بدأت أتلمس الطريق إلى قلبه، فقلت: انظر إلي، ألست شبيها لأبيدي بوليه، حينها ضحك وكأنه لم يتعب فانشرح صدره للكلام، فسألني عن أصلي: قلت له أنا إفريقي، فضحكنا معاً، واسترسلت في الكلام: المغاربة يقولون لكم أفارقة لأنهم لا ينتمون شعوريا إلى إفريقيا، منهم من يرى نفسه في أوروبا ومن يراها في آسيا، ولكني أنا أفتخر بانتمائي الإفريقي.. إنها "عملة تواصلية" فريدة، فتحت لي الباب لأنتمي لقلب هذا الفتى الفريد من نوعه، نظر إلى المكنسة وتنهد تنهيدة خيبة، فقلت له: أخي نعم أنت أخي، ولن تسمع مني عبارة "صديقي" لأنها مزعجة، أخي أنت أنقى من كل هؤلاء الذين يلقون بهذه الأزبال في غير أماكنها، لأنك تكنس أزبالهم، فأنت كائن بيئي، ولي طلب لو سمحت لي، ابتسم فشع بريق أسنانه بالرضى، واسترسلت في الكلام: أريدك يا أخي أن تكنس ظروفك الصعبة بهذه المكنسة، أريدك أن توظف أهم ما لديك من قدرات لتستمر ابتسامتك وترسم الابتسامة على الآخرين، صافحني وقال: نعم، سأفعل.. أشكر الله الذي أتى بك لتثبّت لي فكرة لم تفارقني يوما.. قلت له هل تسامحني للذهاب إلى البيت لئلا أتأخر عن أهلي، وسأعود لنجلس في المقهى معاً؟ قال لي بكل فرح سأنتظرك.. كانت زوجتي حاملا وعليّ أن أتفقدها وأعد الطعام، لأنها في أيامها الأخيرة للوضع، دخلت عليها فنظرت إلي وقالت: وجهك مشرق وفيه حزن، ما الذي وقع؟ اضطربت الإجابة في فمي لأني لم أعرف عن أي إحساس سأتحدث، عن سر الابتسامة أم عن سبب الحزن، لكني أسرعت في الإجابة لئلا أترك لها مجالا للتأويل، وقلت لها عن قصة زيماريو الذي ينتظرني في الشارع.. بعد لقائنا في المقهى توالت لقاءات أخرى، وفي كل مرة أكتشف صدق الرجل وخيباته الكثيرة، ولكن الخيبة الكبرى يجملها السؤال: كيف لشاب غاني كندي أن يتحمل البعد عن أسرته المشتتة بين كندا وغانا، ليعيش في المغرب بدون هوية وقد سئم من محاولات الهجرة السرية، فاقتنع أنه سيستقر في المغرب ليتحول إلى مواطن كامل الحقوق وممارس لكل الواجبات؟ لكن طموحه المتعثر دائما لم يتحقق، وهي قصة تحتاج صفحات كثيرة للتفصيل وأخذ العبر..
قراءة في رواية أستوديو حمرية
"رواية"، هكذا تصرح إحدى العتبات بجنس المؤلف، إنه رواية بشكله وبأسلوبه الفني، ولن أختبر المتن في ضوء هذه العتبات، لأن قراءتي ليست امتحانا يهدف إلى الكشف عن المطابقة بين الغلاف والمتن، لأن المطابقة في الأدب والفن لا تعني القيمة الفنية بشكل إطلاقي، كما أن عدم المطابقة ليس انزياحا عن النوع أو الجنس أو النوع أو النمط... بل لا يعني عدم الانتماء إلى التيار الفني أو المدرسة أو المذهب..
أليس خرق المألوف والانزياح عن العادة أصل الإبداع وعماد الابتكار؟
هذا هو القطب المغناطيسي الموجه لقراءتي" رواية استوديو حمرية"، إنه البوصلة الموجهة لقراءة فنية تبحث في اللغة والأسلوب والحيل التي يشتغل بها السرد في رواية استوديو حمرية، وهي عملية ذات استراتيجية قائمة على:
· قراءة علائقية:
يمكن أن نربط هذه الرواية بأعمال أخرى لكتاب وفنانين مختلفين، فيجد قارؤها نفسه متسكعا في ليال مكناسية بين فضاءات ليلية، داخل فضاء الحانة الممتد في مخيال التأليف، فيخترق البيت وغرفة النوم، ويعبر مختبر التصوير، والأماكن العمومية والخاصة، لأن الأستوديو فضاء ذهني، استطاع أن يعيد بناء الواقع وفق هندسة جديدة، تتقاطع فيه فضاءات مركبة من تجربة قرائية واعية، وكأننا في باريس إرنيست همنغواي، في وليمته المتنقلة، نتعقب آثار الشيخ بالمكي في عالم "الشيخ والبحر"، لنجالس شخصية معادلة لـ"نورا" البريئة في "بيت الدمية" لهنريك إبسن، فتحرقنا أسئلة فلسفية مستمدة من "زمن الأخطاء"، فتدفعنا للبحث عن القداسة في المدنسات، وإعادة بناء الواقع في تداريب ستانيسلافسكي لبناء الشخصية، وفق تقنيات الأداء المسرحي، فيتحول استوديو حمرية إلى ما يشبه "الأوركانون الصغير".
· الحفر في الصياغة الفنية
تعتمد هذه الرواية في الأسلوب على الأسلبة، وكأنها لعبة شطرنج شعبي بين الكاتب والقارئ المفترض، ويعتمد الكاتب في هذا السياق على تقنيات فريدة تشد القارئ إلى المتن، وأهم هذه التقنيات، تدوير الوقائع لصناعة واقع الرواية، وإعداد الشخصية لتقمص الأدوار الاجتماعية، ونسف خطية المحكي وأشكال التوقع، باعتماد الظرف والتظرف وسيلة للتفكه والسخرية والدعابة، فأحداث الرواية واقعية، ليس بمعنى أنها وقعت فعلا، بل لأنها ممكنة الوقوع والحدوث réalisables، وهي أحداث من جنس الشخصيات التي أسندت إليها، وهذا ما يزيد من فاعليتها في التأويل للبحث عن شخصيات بهذه الأسماء أو بهذه الصفات، في محيط الكاتب، لتجنيس المنجز في السيرة، وهو أمر يجب أن نبعده بالقول إن عالم الرواية قائم على جمع أحداث من متلاشيات الواقع لإعادة إنتاجها في العالم الأدبي، وفق هذا الاختيار الواقعي الذي يوهمنا بكون الرواية قطعة من حياة المؤلف، وإذا كان المخرجون المسرحيون يقومون بإعداد الممثلين في مختبراتهم، فإن بوسلهام الضعيف اعتمد المنطق ذاته في إعداد تلك الشخصيات الورقية، في عالمه الروائي لأداء أدوار اجتماعية، وكأن ذلك عملية إخراجية لنص مسرحي لم يكتب بعد.
تبدو الشخصية، من هذا المنظور كتلك الدمية التي يشتغل عليها مصمم الأزياء، يلبسها ما يريد، ويتصرف في مظاهرها كما يشاء، كذلك فعل بوسلهام بشخصياته، إنها دعامات Supports فقط، يمكن له أن يستمد أحداثا وصفات ومواقف متفرقة من شخصيات مختلفة فيركبها في شخصية واحدة، ليجعلها ذات حضور في عالم الرواية، وهذا ما نلمسه من تسمية فصول الرواية بأسماء الشخصيات..
· تبئير الحيل المعتمدة في صناعة اللحظة الجمالية
يصعب في عالم الكتابة أن يورط الكاتب متلقي عمله في اللحظة الجمالية، لكن بوسلهام استطاع فعل ذلك ببداهته اللعبية Ludique، التي تظهر روح الطفل الخفية في الانسان، فأحسن لعبة الاستدراج بحوارات فجائية وسلسة، وحقق خرقا للمألوف في الكتابة الروائية بناء على:
- تراقص الأجناس في رواية استوديو حمرية: يجمع هذا الكتاب، من حيث أسلوب الكتابة بين الرواية والقصة القصيرة والسيرة والمقامة، وهذا يعطيه موقعا مهما في سياق السرد، وله أفق بل آفاق في مجال المسرح والسينما، لأنه يتضمن مجموعة من الآليات التي تعبر به إلى مجال العرض والتمثيل، ومن هذه الآليات:
- تفضية المحكي: الذي يقرب الرواية من الكتابة لسينما الفضاءات
- التشخيص: إذا كان التشخيص عملية حاصلة بتحويل العالم الورقي إلى العرض، أي إلى حضور هنا والآن، فإن صناعة الشخصيات في هذه الرواية تشخيص من نوع آخر، بحيث تنمحي المسافة بين المقروء المتمثَّل وبين التمثل القابل للعرض، وكأن الكتابة إخراج مسرحي لمسرحية تنتظر كتابة نصها وهي جاهزة وممثلوها جاهزون، وقد كتبت عنها نصوص نقدية قبل تأليفها..
- لغة البياضات: فهذه الثقوب التي تملأ صفحات الكتاب تتيح فرصا للتأويل، وتغني المتن ببلاغة الصمت التي تفجر طاقة القارئ في التخيل، مما يعني أنه متلق مشارك في بناء المحكي وليس شخصية مستلبة الهوية، لم تجد نفسها في عالم الرواية فخرجت للتلصص على الشخصيات الأخرى وتتبع حيواتها.
- الإيهام والتغريب في الرواية: تجمع الرواية بين نظريتين مسرحيتين مختلفتين، نظرية المحاكاة الأرسطية، ونظرية التغريب، وذلك أن المتلقي يجد نفسه مستدرجا لفهم بعض الأمور، أو للقيام ببعض ردود الأفعال، ثم يسحب من تحت أقدامه البساط، فيستيقظ من غفلته ليعبر إلى العالم البربشتي بسلاسة..
للقارئ حق عبور هذه الرواية سيرا على قدميه، أو على سنم جمل، أو بطائرة خاصة.. أو بأي وسيلة أخرى، وقراءتي عبوري أنا في زمن ما ومكان ما، وفي ظروف شعورية ولا شعورية، بما أوتي من وسائل الاكتشاف.. وحتما سأعود مرات أخرى إلى الرواية لعبورها بشكل آخر ولتعبير ما فيها من رؤى..
ثقافة إملوان
تجتمع في ثنايا هذا الكتاب مجموعة من الأبحاث الناهلة من الهوية الثقافية الملوانية، وتعكس تفاعل مجموعة من الفاعلين لنقل هذه الثقافة من هامش الهامش إلى نقطة تقلص المسافة بين الهامش والمركز، وهي محاولة لتجاوز كثير من المسلمات الثقافية التي تذيب هذه الهوية الملوانية في تمركزات أخرى، أو تجعلها هوية مستلبة أوآثار الملونية من السبل المفيدة لتمثل "ذهنيات المجتمع" وتأويل سلوكاته...
وفيه مقال للدكتور محمد شبير يحمل عنوان "الديني والفني في الثقافة الملوانية، فاعلية المرأة في المجتمع الأبيسي"
دراسات في تحليل الخطاب
يشمل هذا الكتاب على مجموعة من المقالات المحكمة، وهي في الأصل أعمال ندوة دولية أقيمت بالدار البيضاء بالمغرب حول تحليل الخطاب، وفيها مقال للباحث محمد شبير يحمل عنوان "المسرح وإشكالات الهوية"
هذا الكتاب الجماعي من بواكير الدراسات الفرجوية في الجنوب الشرقي، ويتضمن مجموعة من المقالات والدراسات، من بينها مقال للباحث محمد شبير معنون بـ "كيمياء أحيدوس" من الفرجة إلى المعنى
من أشعار محمد شبير
أقدم محاولة شعرية في "المتقارب" حافظت عليها، نظمتها في وجدة صيف 1999، كنت أشتغل في أوراش البناء مع عمي، وأنا تلميذ في ثانوية الحسن الثاني بالريصاني.
غشاني الهوى في فيافي البعاد *** ـطفوح الجنان فقيــــــد العماد
ولما بعزمــي يعـــيل أنـــادي *** أيا شمس يرنــــو إليك فـؤادي
محيا المنـار ووجه الضحـــى *** إليــه ظمئت أشــدّ سهــــــــاد
سراج شعوري ومبدا حيـــاتــي*** لذاك الجمــال وعقل صفادي
يهمهم حبّا، فيأســـــى سقيــتــمٌ *** إلهي أ يحي الهوى في الرماد؟!
فيا محنتي من ليــــــالٍ تداعـت *** ولم يبق إلا رســــوم الغوادي
أتمض عهـــودي بغيـــر جدال *** أيتل الهزيـــع حصاد العوادي؟
رزايا تحــل محـل همـومـــــي *** ومنها حياتي ضروب الحــــداد
فما العشـــــــق إلا بلاءٌ عليــلٌ *** يحاسب النفوسَ حسابَ اطّـراد
إنِ الحب داءٌ، فقلبي مصـــــاب ***علا البرجَ بيـن كعـــــاب البلاد
شبير محمد وجدة 1999.
حيثما الانسان، يوجد الطقس
الطقس فردي وجماعي، نفسي واجتماعي، مقيد بالزمكان ومطلق.. إنه إحدى البوابات الأساسية لفهم الإنسان وتمثل الأشياء كما يتمثلها، فهو صورة عن الذهنية والشعور واللاشعور والعلاقات الرمزية التي تربط الانسان بالوجود، لهذا نخصص هذه النافذة للمواضيع ذات العلاقة بهذا الميدان، ليس بهدف المفاضلة بين الطقوس أو ممارسيها، بل لتقريب المسافة بين المختلفين في إطار احترام الخصوصيات والبحث عن نقط الحوار الجاد للتعايش والتفاهم والتفكير المشترك فيما يحفظ للانسان إنسانيته، رغم أشكال الاختلاف..
فرجات
الفرجات الشعبية جزء من الثقافة الشعبية، التي تشمل الأمثال والحكايات والأساطير والأحاجي والعادات والطقوس.. إنها الثقافة الحية وذاكرة المجتمع، هي الوعي للممارسين لها وهي اللاوعي لمن يعيشون فسها ويتوسلون في تعبيراتهم بأشكال رصينة وعالمة، إن الفرجة الشعبية بهذا المعنى في مقامها الذي لا يستلزم أن تقارن بأي شكل آخر.. إنها حية، بل إنها الحياة التي تحرك خلايا العلم والأدب والفن في المجتمع إنها عمقه الخيالي باختصار.. وهذا مبرر كاف لتكون لها مكانة بيننا..
لالة ميمونة
في شهر مارس، يقام حفل كناوي، بجبل لالة ميمونة، وهو أعظم جبل في جماعة مصيصي، تتعلق بهذا الحفل مجموعة من الخصوصيات الثقافية التي تحتاج روائز كثيرة لتمثلها ودراستها. إنه من التعبيرات الثقافية التي تتناسج فيها الخيوط الاجتماعية بألوانها المختلفة، وتًتجاوز فيها محدودية الزمن والمكان، لرسم خريطة جديدة للعلاقات الإنسانية، برحلة يعرج فيها الناس إلى قمة الجبل (الطود)، المحيطون به جغرافيا أوروحيا، وقد التفت إليه الباحثون مؤخرا لتناول بعض جوانبه بالبحث والدراسة، وهذا منعطف علمي مهم لفهم ذهنية المجتمع المغربي وطرق تمثيله لتمثلاته المشتركة..يمثل هذا الحفل إحدى مجالات اهتمامنا، للبحث في أعماقها الثقافية وجعلها واجهة من الواجهات االتي تجذب إليها االمهتمين المختلفين من مجالات مختلفة، لعل ذلك يكون مساهمة من مساهماتنا للبحث في الجوانب الثقافية للهامش، خاصة أن النظرة المغايرة إلى هذه الأشكال تجعلها مضانا للمعرفة والعلم ..نلفت الأنظار إلى أن هذا الحفل/الطقس يتقاطع مع طقوس وحفلات أخرى في المغرب وخارجه، وهذه نقطة مفصلية للبحث في المشترك (التشابه) وفي الاختلاف، خاصة من لدن الممارسين الثقافيين للثقافة نفسها، لأن ذلك يوفر ذاكرة حية للمجتمع الذي يعيشون فيه، وهذا جزء من دأبنا في هذا الموقع، وفي أبحاثنا الخاصة..يمكنكم متابعة عينة من كناوة لالة الجنوب الشرقي في هذا الرابط:https://fb.watch/kmqd_tSsZP/?mibextid=Nif5oz
تاقوجت (حاسي لبيض/ مروزكة)
تاقوجت هذه الوحدة السياحية الرائعة، تحمل دلالة في التسمية، بحيث استمدت سموها من العلو والارتفاع، وتديرها سيدة فرنسية الاصول أمازيغية الانتماء كما قالت في حوار شيق معها لم يطل كثيرا..في نقاشنا حول السياحة أدركت أن السيدة التي جاءت إلى مرزوكة واستقرت بها، لم يكن هدفها لم يكن ماديا فقط، إنها مستثمرة لها رؤيا وتعرف ما تريد من مشروعها السياحي والثقافي في الان نفسه..عمارة الوحدة ذات الطابع التقليدي تعكس تصور هذه السيدة التي تفضل تقديم الوجبات التقليدية تحت خيمة او شجرة. في صحن تقليدي، على مائدة أرضيتها صفيح صخري، من استعمال الوسائل والأدوات العصرية...تناقشنا في قضايا مهمة، واستشعرت أهمية من هذا النقاش، وقبل العودة يوما إلى هذا المكان لابد أن أبصم على هذه الشهادة في هذا اليوم الفريد من نوعه.